الكومبيوتر يقرأ إيقاع الشعر
منقول عن
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]يدرك اغلب من كتب الشعر في هذا الجيل: ان عروض الشعر العربي مهما أتقن من قبل دارسيه فانه لا يخلق شاعرا، وكثيرا ما كانت الفطرة الذوقية او الأذن الموسيقية اجدر في تكوين الشاعر من تعلم العروض. وليس أدل على ذلك من ان الشعر العربي وجد قبل الخليل بن احمد الفراهيدي (ت175 هـ)، ولا يعني هذا ان الشاعر اكبر من العروض.
ولا يقلل ذلك من أهمية العروض كعلم يؤهل موازين الشعر العربي، وقد ظهرت قديما وحديثا كتب عديدة، اختصت بدراسة عروض الشعر العربي وتطوراته في بحوث الشعر الحر والبند.
وعموما فالعروض علم يعنى بالأصوات ومقاطعها في الكلمات، وما فيها من حروف ساكنة ومتحركة، سواء في البيت الشعري في القصيدة العمودية، او في الشطر الشعري للقصيدة الحرة (قصيدة التفعيلة) لكي يحكم وزن القصيدة دون أي خلل.
ان صعوبة دراسة هذا العلم تكمن في مصطلحاته المتنوعة وتعقيداته بحيث يستدعي التبسيط والتيسير، وفي عصر التقنيات المتطورة لم يخطر ببال باحث قط ان يحاور الكومبيوتر ليرى هل بوسعه ان يقرأ الشعر، ويدرك أوزانه باختلاف تركيباتها، الا محاولة لم يسبق لها مثيل سجلت براءة اختراعها شاعرة بصرية كانت تتلمس خطواتها الأولى منتصف التسعينيات، وهي تحمل بكالوريوس حاسبات فتقدمت الى كلية العلوم بجامعة البصرة بأطروحة ماجستير حظيت بتقدير (امتياز) تحت عنوان (حوسبة علم العروض العربي) تلك هي الآنسة جنان العيداني.
أشارت الباحثة في مقدمتها الى ما عرف عن اللغة العربية من بنية صوتية متينة، وقدرة على تأدية وظائفها بحس ذوقي عال، تحكمه علوم النحو والصرف والصوت والدلالة، والشعر العربي بكونه واحدا من فنونها جسد منذ القدم رصانة العربية وقدرتها على الارتقاء بالمعنى من خلال قوالب وزنية أنشأت للشعر موسيقاه الخاصة، وقد أسس العالم البصري الفذ الخليل بن احمد الفراهيدي من خلال استقراء أشعار العرب علم العروض، وهو علم ذو قوانين شائكة ومتداخلة يميز بحور الشعر العربي.
وأشارت الباحثة ايضا الى ان محاولتها في حوسبة علم العروض ترمي الى تسهيل هذا العلم، بوساطة التقنية الحاسوبية المتطورة، بحيث نجح في تصميم نظام حاسوبي خبير وتطويره للقيام بتحليل أبيات الشعر العربي، على وفق ما يمتلكه النظام من حس موسيقي متأت من مرونة عالية، في استخدام مبادئ العروض وقوانينه وتطبيقاتها.
والنظام الحاسوبي الذي اقترحته الباحثة من الأنظمة التعليمية التي تساعد الطلبة تشخيص هوية البيت الشعري، وتحديد انتمائيته لأي بحر من بحور الشعر العربي، فضلا عن الكشف عن مكوناته اللفظية، واختبار اماكن التقطيع الصحيحة التي تعطي البيت الشعري موسيقاه الخاصة، وقد طبقت الباحثة هذا النظام على اكثر من شواهد الشعر القديم والحديث، وتوصلت الى نتائج أثبتت قدرة برنامجها الحاسوبي، وكفاءته في تحديد التفعيلات والمقادير اللفظية، وقراءة وزن البيت ومعرفة ايقاعه.
وقد توزعت الرسالة في أربعة فصول، وبالإمكان التوقف عند أهم النقاط التي كشف عنها أي فصل من تلك الفصول باختصار، بما يقدم حقيقة جديدة وعلمية، تقول ان الكومبيوتر يجيد حقا قراءة ايقاع الشعر العربي ولعل أهم تلك النقاط:
ان التقنية الحديثة والتطور الكبير للحواسيب الإلكترونية، صارت تتعامل مع مختلف مجالات الحياة، بشكل يتيح لمستخدميها السرعة والدقة والمرونة، وان اية محاولة للتواصل مع التراث العربي تقنيا، تخلق نسيجا معرفيا يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، ويجمع بين الأصالة وروح التجديد.
المهتمون بعلم العروض اتفقوا على ان هذا العلم، قد يسبب ارباكا في ذهن المتلقي، بحيث صار من المهم البحث عن أساليب جديدة، تحاكي الذهن البشري ليرتكز على مفاهيم هذا العلم بصورة أدق وأسهل، واتجهت الفكرة الى فتح أفق علمي حاسوبي يسهل مهمة قراءة عوالم الايقاع، والنغم، والموسيقى، والصوت في إطار محاكاة الحاسوب وتطويعه لمحاكاة المنطق الأدبي.
ان تنوع مصطلحات العروض بين وزن وقافية وتفعيله، وغيرها من مفاهيمه استدعى البحث وراء الظاهرية، واعداد هيكل مرن ترتكز عليه هذه المفاهيم وصولا الى البنية الباطنية التي تحكم نسق البيت الشعري وسلوكه من خلال موسيقاه الداخلية.
نهج البحث الى تصميم مجموعة من الدوال البرامجية، لتحويل الكتابة الإملائية الى كتابة عروضية، باستثناء بعض الشواذ، مع ملاحظة تنوع أنماط وأوزان بحور الشعر العربي، وبنيتها الداخلية التي تعد العمود الفقري الذي يستند عليه معنى البيت على وفق ضوابطه اللفظية، التي كانت تدرك بالحس الموسيقي الفطري.
من المحاولات الجديدة في دراسة العروض كانت محاولة الدكتور طارق الكاتب في كتابه (موازين الشعر العربي باستعمال الأرقام الثنائية، وقد ربط ما بين سلوك النظام الثنائي، وسلوك المتحركات والسواكن للبيت الشعري، واعتمد الصفر لتمثيل المتحرك، واعتمد الواحد لتمثيل الساكن، ثم قام بتحويل الصورة الثنائية للبيت الى شفرة بدلالة النظام العشري، ولخص جهده بمجموعة من الجداول، وصلت الى اثنين وعشرين جدولا يجب الرجوع إليها عندما يراد تحديد هوية البيت الشعري.
ان التقدم التكنولوجي المتسارع في معمارية الحاسبات، وهندسة البرامجيات وإمكانات لغات البرمجة كائنية المنحى الحديثة، جعلت اية معضلة من وجهة نظر قابليات الكائن البشري امرا بغاية السهولة، وفي هذا الاطار تبنى الفصل الثاني من الدراسة تقديم دراسة تحليلية للهياكل الوزنية للبحور واقترح تمثيلا لها مستخلصا من دراسة احصائية اشتملت على عدد كبير من الابيات الشعرية.
كما غطى الفصل الثالث متطلبات نظام التقطيع المقترح من خلال تطوير خوارزميات، تتبنى معالجة الكتابة الاعتيادية وتحويلها الى عروضية وتحويل الاخيرة الى مقاطع صوتية، بعد تحويلها الى متحركات وسواكن، وكذلك منهجية التقطيع والعرض النهائي الذي روعي فيه توفير كل ما يتطلبه تحليل البيت الشعري وشفرة التفعيلة.
ان تنوع نظم توزيع التفعيلات تمخض عن ظهور هياكل وزنية تفرد كل واحد منها بنظام ايقاعي خاص به، وهذه النظم الوزنية لها القابلية على الاحتفاظ بايقاعها العام حتى بعد تعرض بعض تفعيلاتها الى الزحافات والعلل، هذا يعني انه يمكن النظر الى كل بحر على اساس كونه مجموعة شاملة ويمكن وبسبب الزحافات والعلل تجزئتها الى مجاميع جزئية، كل منها له طابعه الإيقاعي الخاص.
ان كل بحر من بحور الشعر العربي مثل مجموعة هياكل وزنية مساوية لعدد اوزانه، وفي احد الجداول تعرض الباحثة بحر الرجز الذي يحتوي على خمسين وزنا، أي له خمسون تمثيلا رسوميا، وكل تمثيل رسومي من تلك التمثيلات يحتوي على مجموعة من الأنماط متمثلة بحاصل جمع خلايا العمود الاول للجدول × حاصل جمع خلايا العمود الثاني × الخ.
تمخضت دراسة الباحثة لبنية الشعر العربي العمودي الصوتية عن جملة استنتاجات، أهمها ان للشعر صورتين: ظاهرية متمثلة بخطه، والاخرى باطنية حاملة لايقاعه متجسدة بلفظه، وان جذور الصورة الباطنية تتشكل في تسلسل رمزي بين المتحركات والسواكن يمكن تدوينها باعتماد أي رمزين، ويمكن تحديد المقادير المقطعية اللفظية للبيت الشعري بعد تحديد انتمائيته، واعتماد الطول المقطعي للصدر والعجز وبعض التفعيلات في حالة وجود اكثر من تقطيع لنفس الطول المقطعي.
دونت الباحثة في الصفحات الاخيرة من رسالتها ـ قبل الملحق ـ توصيات للعمل المستقبلي لتطوير البيت الشعري باستحداث موسيقي (دندنة) في حاسبات رياضية معينة، فضلا عن تعليم الحاسبة نغمات خاصة لتفعيلات البيت الشعري، والعمل على كشف الأوزان المختلة التي نظم بها بعض الشعراء، لكنها لم تقر من قبل العروضيين، وتطوير النظام ليشمل أيضا آلية تمييز الموشحات.
لقد اعتمدت الباحثة مصادر عربية تزيد على العشرين في الأصوات اللغوية، وموسيقى الشعر، وتخريج القوافي، وتهذيب العروض، والبنية الإيقاعية للشعر العربي، كما اعتمدت مصادر أجنبية في علم الحاسوب وتقنياته. ووقعت الدراسة في تسعين صفحة من الحجم الكبير، وكانت هذه الرسالة الجامعية المتميزة والجديدة والجادة بإشراف الأستاذ الدكتور صباح عبدالعزيز، والدكتور جواد راضي العلي، وقد ناقشها الأستاذ المساعد الدكتور جاسم طعمة سرسوح والأستاذ المساعد توفيق عبد الخالق والمدرس الدكتور عبدالحسين محسن، وكان لها صداها الطيب في أروقة كلية العلوم بجامعة البصرة وفي الوسط الأدبي عموما في بصرة الخليل مؤسس علم العروض وفقيهه الأول وإذا ما طبعت ونشرت فسيكون لها صدى آخر يؤشر قدرة باحثة بصرية من حفيدة الخليل على الإتيان بالجديد الذي يضاف الى علم من ابرز علوم العربية.